بسم الله الرحمن الرحيم
( محاضرة بعنوان ) "مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح"
إعداد وتحقيق
وجـدي عـبد اللطــيف أبـوراس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .. فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وبفضله تتحقق المقاصد والغايات ، المستحق لغايات التحميد ، الذي لا يفنى عطاؤه ولا يبيد ، المانع فلا معطى لما منع ولا راد لما يريد ..
وأصلي وأسلم على النبي المفضل ، والرسول المبجل ، الذي حاز كل كمال ، وخص بالفضل وحسن المقال ، سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضى اللهم عنا وعنهم يارب العالمين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، فاللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما .
وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ..
أما بعد ،،
فهذه محاضرة بعنوان " مفاهيم في العقيدة الإسلامية يجب أن تصحح " ..
=============================================
قال الله تعالى : (( قل إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )) .
وقال تعالى : (( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )) سورة المائدة أية 15-16.
وقال تعالى : (( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه )) سورة آل عمران أية 187.
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وخطورته وخصوصاً على الناشئة ، فسوف تنتظم هذه المحاضرة في العناصر التالية :
أولاً : الإسلام دين الفطرة والبساطة ..
ثانياً : مفهوم العقيدة الإسلامية الشامل وخصائصها ..
ثالثاًً : حكم جديد إسمه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
رابعاً : مفهوم البدعة الحقيقي وأقسامها ..
خامساً : مفهوم التوسل ..
وأخيراً : إياك نعبد وإياك نستعين ..
والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أؤلئك الذين هداهم الله ، وأؤلئك هم أولوا الآلباب ..
أولاً : دين الإسلام دين الفطرة والطبيعة ..
عندما يولد الإنسان فإنما يولد على الفطرة ويعيش معه خيره وأساس عقيدته مالم تتصل به مؤثرات تغير اتجاه هذه الفطرة السليمة ، فينحرف بها عن حقها ومثلها ومبادئها إلى ما يؤدي بها إلى الخسار والبوار ، ويعرضها للشك والشرك فيضيع دينه وتضيع دنياه .
وهذا يتأكد بقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مولد إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) .
فقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليعرف الناس هذه الحقيقة ويردهم إلى فطرتهم ، فمكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يؤكد العقيدة ويقويها في نفوس أتباعه حتى يتجمعوا على كلمة التوحيد ، وجاءت أوامر الحق سبحانه إلى نبيه ، لينطلق على هذا الأساس بدعوته ، فقال تعالى : (( قل إنما يوحى إلى أنما إلـهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون ))
ولعل أبرز ما في صفات هذا الدين ، البساطة والوضوح في التوحيد والصلة بين الخالق والمخلوق ، فتعاليمه تبين أن الله جل شأنه إله متفرد بالعظمة والوحدانية لا يشرك في حكمه أحد ، وأن الناس جميعاً عباده لا فرق بين الكبير والصغير ، وأن النبي عبد مثلهم أكرمه الله بوحيه وأمره بتبليغ رسالته وليس له من الأمر شيء .
هذه حقيقة التوحيد الإسلامي ، وهذا هو الوضوح الذي لا غموض فيه ولا التواء ، حيث ترى الله قائماً بذاته والكون قائماً به ، بل الله متصرف بمخلوقاته ، وقضاؤه نافذ فيهم ، وليس لهم إلا الاتكال عليه والعمل بما أمر ، وكل هذا العالم فان والمرجع إلى الله ، هذه هى البساطة والوضوح في العقيدة ، بساطة لا تكلف الإنسان مشقة في الفهم ، ولكن يغمره بنور اليقين . فمنهج القرآن الكريم في إنشاء العقائد وإنضاجها خفيف رقيق أخف من الهواء وأرق من الماء .
ج
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (1) وجدي أبوراس
ثانياً : مفهوم العقيدة الإسلامية الشامل وخصائصها ..
ــ مامعنى العقيدة الإسلامية ؟ ، سؤال يجب على كل مسلم أن يعرف جوابه ، وإلا لاستشكل الأمر عليه ، كما هو حال كثير من إخواننا المسلمين اليوم .
العقيدة الإسلامية ببساطة : هى الأمور التي يجزم بصحتها أهل الإسلام جزماً مطلقاً .
وقد يسأل بعض من الناشئة ويقول : من هم أهل الإسلام ، أو بالأحرى ما معنى الإسلام ؟
الجواب أيضا : الإسلام : هو الإقرار باللسان ، وتصديق بالجنان أي { بالقلب } ، بكل ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا معنى العقيدة ببساطة كما جاء بها الكتاب والسنة ، لا لبس فيها ولا تعقيد ، ودلنا عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال في الحديث الشريف ، الذي رواه البخاري : ( من شهد أن لا إله إلا الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم له ما للمسلم ، وعليه ما على المسلم ) .
فما هى الأشياء إذن التي يجزم بصحتها صاحب هذه العقيدة ؟
هى لا شك أركان أساسية لا تكاد تنفك عن بعضها البعض :
ــ أركان العقيدة الإسلامية : ستة أركان وهى :.
1 ) الإيمان بالله تعالى .. 2 ) والإيمان بملائكته .. 3 ) والإيمان بكتبه ..
4 ) والإيمان برسله .. 5 ) والإيمان باليوم الآخر .. 6 ) والإيمان بالقدر .
هذه الأركان والأصول الستة التي تمثل العقيدة ، تلاحظ كل ركن من هذه الأركان الستة يستوجب فيها الإيمان ، إذاً هى قضية الإيمان ، وفي الحديث الشريف ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية ، والإيمان في القلب ) أبو يعلى .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أرفعها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) رواه البخاري .
ــ خصائص العقيدة الإسلامية :
أولا : الوضوح :
فالعقيدة الإسلامية عقيدة واضحة لا غموض فيها ولا تعقيد، فهي تتلخص في أن لهذه المخلوقات إلها واحدا مستحقا للعبادة هو الله تعالى الذي خلق الكون البديع المنسق وقدر كل شيء فيه تقديرا، وأن هذا الإله ليس له شريك ولا شبيه ولا صاحبة ولا ولد ، فهذا الوضوح يناسب العقل السليم ، لأن العقل دائما يطلب الترابط والوحدة عند التنوع والكثرة ، ويريد أن يرجع الأشياء المختلفة إلى سبب واحد.
وكما أن العقيدة الإسلامية واضحة فهي لا تدعو إلى الاتباع الأعمى بل على العكس ، فإنها تدعو إلى التبصر والتعقل قال تعالى :(( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين))
ثانيا : فطرية العقيدة الإسلامية :
إن العقيدة الإسلامية ليست غريبة عن الفطرة السليمة ولا مناقضة لها، بل هي على وفاق تام وانسجام كامل معها
وليس هذا بالأمر الغريب إذ إن خالق الإنسان العليم بحاله هو الذي شرع له من الدين ما يناسب فطرته التي خلقه عليها، كما قال تعالى ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )) وقوله (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير )) والواقع شاهد على موافقة الفطرة للعقيدة الإسلامية القائمة على الإخلاص لله وحده، فما أن يصاب الإنسان بضر تعجز أمامه القوى المادية إلا ويلجأ إلى الله تعالى في تذلل وخضوع، ويستوي في ذلك الكافر والمؤمن، بل حتى الطفل الصغير فإنه لو ترك على حاله دون أن يؤثر عليه والداه أو البيئة من حوله لنشأ معتقدا بالله تعالى ربا وإلها لا يعبد سواه لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه ) .
ثالثا : عقيدة توقيفية مبرهنة :
تتميز العقيدة الإسلامية بأنها توقيفية فلا تجاوز فيها للنصوص المثبتة لها كما إنها عقيدة مبرهنة تقوم على الحجة والدليل، ولا تكتفي في تقرير قضاياها بالخبر المؤكد والإلزام الصارم، بل تحترم العقول والمبادئ التي يقوم عليها الدين كله ذلك أنها لا تثبت في جميع جزئياتها وكلياتها إلا بدليل من الكتاب أو السنة. بل إن أتباعها منهيون عن الخوض في مسائلها إلا عن علم وبرهان .
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (2) وجدي أبوراس
قال تعالى (( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)) وقال ((وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون )) .
كما أن القرآن الكريم حين يدعو الناس إلى الإيمان بمفردات العقيدة يقيم على ذلك الأدلة الواضحة من آيات الأنفس والآفاق، فلا يدعوهم إلى التقليد الأعمى أو الاتباع على غير هدى، بل إنه يأمرهم أن يطلبوا البرهان والدليل قال تعالى ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين )) ويترتب على البرهنة والتوقيفية ما يلي :
1- تحديد مصادر العقيدة بالكتاب والسنة .
2- الالتزام بألفاظ الكتاب والسنة المعّبر بها عن الحقائق العقدية .
3- استعمال تلك الألفاظ فيما سيقت لأجله.
4- عدم تحميل تلك الألفاظ ما لا تحتمل من المعاني.
5- السكوت عن ما سكت عنه الكتاب والسنة وذلك بتفويض علمه إلى الله تعالى.
6- أن نقدم دلالة الكتاب والسنة على ما سواهما من عقل أو حس أو ذوق أو غير ذلك من وسائل المعرفة .
ومن أمثلة الدلائل التي ساقها الله عز وجل في القرآن الكريم القائمة على البراهين ما يلي :
1- الدليل العقلي قال تعالى (( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون )) .
2- الدليل من الأنفس قال تعالى (( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )) .
3- الدليل من الآفاق قال تعالى (( مرج البحر يـن يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان )) .
رابعا :عقيدة ثابتة ودائمة :
لما كانت العقيدة الإسلامية تقوم على الدليل والبرهان لزم أن تكون عقيدة ثابتة ودائمة قال الله تعالى ((لا تبديل لكلمات الله )) وسبب هذا هو ثبوت مصادرها ودوامها لأن الله تعالى تكفل بحفظها ((إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) فهي عقيدة ثابتة ومحدده لا تقبل الزيادة ولا النقصان ،ولا التحريف ولا التبديل.
فليس لحاكم أو مجمع من المجامع العلمية أو مؤتمر من المؤتمرات الدينية ليس لأولئك جميعاً و لا لغيرهم أن يضيفوا إليها شيئا أو يحذفوا منها شيئا ، وكل إضافة أو تحوير مردود على صاحبه بقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي مردود عليه وقد هدد القرآن الكريم العلماء خاصة من أن تميل بهم الأهواء والأطماع أو الإغراءت المادية فيزيدوا أو ينقصوا شيئا من الدين قال الله تعالى : (( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون)) وعلى هذا فكل البدع والأساطير والخرافات التي دست في بعض كتب المسلمين أو أ شيعت بين عامتهم باطلة مردودة لا يقرها القرآن ولا تؤخذ حجة عليه .وإنما الحجة فيما ثبت من نصوصه فقط . كما قال الله تعالى :
(( رسلا مبشرين و منذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) .
خامسا : إنها عقيدة وسط لا إفراط فيها ولا تفريط :
إن العقيدة الإسلامية * وسط بين الذين ينكرون كل ما وراء الطبيعة مما لم تصل إليه حواسهم وبين الذين يثبتون للعالم أكثر من إله والذين يحلون روح الإله في الملوك والحكام ، بل وفي بعض الحيوانات والنباتات والجمادات؟ فقد رفضت العقيدة الإسلامية الإنكار الملحد كما رفضت التعدد الجاهل والإشراك الغافل وأثبتت للعالم إلها واحدًا لا شريك له . * كما إنها وسط في الصفات الواجبة لله تعالى فلم تسلك سبيل الغلو في التجريد فتجعل صفات الإله صورا ذهنية مجردة عن معنى قائم بذات لا توحي بخوف ولا رجاء ، كما فعلت الفلسفة اليونانية ، ولم تسلك كذلك سبيل التشبيه والتمثيل والتجسيم كما فعلت بعض العقائد حيث جعلت الإله كأنه أحد المخلوقين يلحقه ما يلحقهم من نقص وعيوب ،* فالعقيدة الإسلامية تنزه الله تعالى إجمالا عن مشابهة المخلوقين بقواعد مثل قوله تعالى :
(( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) وقوله (( ولم يكن له كفوا أحد )) ، (( هل تعلم له سميا )) ومع هذا تصفه بصفات إيجابية فعاله تبعث الخوف والرجاء في نفوس العباد كما في قوله تعالى (( الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيدهم وما خلفهم ولا يحيطون بشي ء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم )) .
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (3) وجدي أبوراس
ثم إنها * وسط بين التسليم الساذج والتقليد الأعمى في العقائد ، وبين الغلو والتوغل بالعقل لإدراك كل شيء حتى الألوهية فهي تنهى عن التقليد الأعمى ، حيث عاب الله على القائلين (( إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون )) وتنهى عن التوغل بالعقل لإدراك كيفية صفات الرب عز وجل فقال تعالى (( ولا يحيطون به علما )) وقال : ((ولا تقف ما ليس لك به علم )) وتدعوهم إلى التوسط والأخذ بالمدركات كوسائط قال تعالى :
(( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون )) .
ثالثاً : حكم جديد إسمه " لم يفعله رسول الله " صلى الله عليه وسلم .
فالأدعياء والمتطفلون على بساط الحقيقة كثر ، والحقيقة بريئة منهم ولا تعترف لهم بصحة نسبتهم إليها .
وكـل يدعـي وصـلاً بلـيلـى وليـلـى لا تقـر لهـم بـذاكـا
هذا بالإضافة إلى أنهم يشوهون الصورة ويسيئون السمعة ، وهؤلاء الأدعياء يصدق عليهم الوصف النبوي الدقيق الذي يقول : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور( ..
ولقد بلينا معشر المسلمين بكثر من هؤلاء ، يعكرون صفو الأمة ويفرقون بين المسلمين ويورثون العداوة بين الأخ وأخيه والولد وأبيه .
ويدخلون إلى تصحيح مفاهيم الإسلام من باب العقوق ويسلكون في التمسك بآثار السلف سبيل الجحود ويستبدلون الحكمة والموعظة الحسنة والرأفة والرحمة بالغلظة والجفوة وسوء الأدب وقلة الذوق .
إننا نبرأ إلى الله من هذا كله ونعتبر أن كل ما يخالف الكتاب والسنة ولا يقبل التأويل هو مكذوب دخيل وملصق بأيد آثمة ونفوس ضعيفة .
فإذا دعوت مسلماً يصلي ، ويؤدي فرائض الله ، ويجتنب محارمه وينشر دعوته ، ويعمر مساجده ، ويقيم معاهده ، إلى أمر تراه حقاً ويراه هو على خلافك والرأي فيه بين العلماء مختلف قديماً إقراراً وإنكاراً فلم يطاوعك في رأيك فرميته بالكفر لمجرد مخالفته لرأيك فقد قارفت عظيمة نكراء ، وأتيت أمراً إذا نهاك عنه الله ودعاك إلى الأخذ فيه بالحكمة والحسنى .
فأول مفهوم أضافوه علينا واستحدثوه ، هو قولهم ( هذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ) ، لقد أضافوا علينا حكماً جديداً على أحكام الشريعة الغراء ، فالذين يزعمون محاربة البدعة كانوا هم أول من وقع فيها على حسب ظني ، تعال معى سويا لنشرح هذا بالضبط : -
الأمر المتفق عليه إجماعاً عند علماء الأصول ، والأمة كما تعلمون لا تجتمع على ضلالة ، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة الميمونة المباركة ، فالأمر المجمع عليه اتفاقا أن أحكام الشريعة هي كالتالي :
1) الواجب ، 2) الحرام ، 3) السنة ، 4) المكروه ، 5) الجائزأو المباح .
فأي أمر في الشريعة إلا ويندرج تحت إحدى هذه الأحكام ، ولا يمكن أبدا بأي حال من الأحوال أن يخرج أي أمر كان خارج هذه الأحكام ، فجاء هؤلاء المتنطعون الأدعياء ليضيفوا حكما سادسا على هذه الأحكام فأسموه حكم ( لم يفعله رسول الله ) .
فسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ترك لنا أشياء كثيرة لم يفعلها ولم يأمر بها ولم ينهى عنها ، وهي تدخل تحت حكم الجواز ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تبحثوا عنها ) الدار قطني .
فكيف لهؤلاء الأدعياء أن يجتروا ويدخلون فعلها في الحرام ، بحجة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال علماء الأصول في ضوابط قواعد الشريعة : أن الأصل في الأشياء هو المباح ، وأن ما حرمه الشرع هو عارض يعترض الأصل ، لذلك ما سكت عنه الشرع ولم يأمر به ولم ينهى عنه هو في الأصل مباح .
ولو افترضنا ذلك جدلا أن كل مالم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بدعة وحرام :.
فكيف لصديق الأمة سيدنا أبوبكر رضى الله عنه ، أن يفعل شيئا لم يفعله رسول الله وهو جمع القرآن الكريم ، بعد أن عرض سيدنا عمر عليه بأن يجمع القرآن خوفا عليه من الضياع ، وسأل معاذ ابن جبل فقال له معاذ هذا لم يفعله رسول الله ، ثم هدى الله أبا بكر فجمع المصحف وقال هذا والله خير ، وكلكم يعلم بقية القصة .
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (4) . وجدي أبوراس
ــ فهذا خليفة رسول الله وقد نزل القرآن ليشهد له بأنه صاحب رسول الله ، وهو أقرب خلق الله لرسول الله ، فكيف له أن يبتدع بعد رسول الله ويخالف مالم يفعله رسول الله ، فهو بقول هؤلاء الأدعياء أن أبا بكر كبير المبتدعين وحاش له أن يكون كما يزعمون .
ــ وهدا فاروق الأمة أيضاً سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، يقول في صلاة التراويح قولته المشهورة
( نعمت البدعة هذه ) .
فمن أين لهؤلاء الأدعياء لهذا القاموس الجديد ، إنه لا شك سقم في العقول .
رابعاً : مفهوم البدعة وأقسامها ..
ما أكثر البدع حسب اعتقاد هؤلاء الأدعياء المغرمين بتبديع الناس، وفي نظرهم معظم قطاعات الصحوة لا تخلو من بدعة ضلالة.
فالسبحة بدعة ، والاحتفال بمولد سيد الكائنات بدعة ، والأهازيج الإسلامية بدعة ، وفقه الواقع بدعة ، والدعاء غير المنصوص عليه بدعة ، وقفاز المرأة بدعة ، ورفع اليدين بعد الصلاة بالدعاء بدعة ، وهناك ما لا نهاية له من هذا الهوس ، إن هذه الظاهرة ولا شك تنطلق من سقم عقلي.
ويزداد شعورنا هذا حين نجد مثل هذه المبتدعات منصوصاً عليها في أحاديث بعضها في الصحيحين، وبعضها في السنن وأقلها درجة لا ينزل عن رتبة الحسن أو يكون غير مجمع على ضعفه.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن هؤلاء متيّمون بالدليل العدمي ، فدليلهم على التبديع في أحيان أخرى هو عدم الدليل، فإذا قال لك عن فعل من الأفعال بدعة فقل له : ما الدليل ؟ فسيقول لك : لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوه ، فإذا حاججتهم بجمع القرآن ومضاعفة بعض الحدود وفتح الدواوين وصلاة التراويح، قالوا إنها سنة الخلفاء الراشدين وأمرنا باتباعها، فإذا قلت فما قولك في إنكار الصحابة لجمع القرآن في بداية الأمر؟ وإنكارهم على عمر في مسألة إبقاء أراضي الخراج عند أصحابها بدلاً عن توزيعها على الفاتحين والاستفادة من فيئها؟ وما قولك في إنكار الصحابة على عثمان إتمام الصلاة بمنى في الحج؟ هل كان الصحابة يجهلون قوله عليه الصلاة والسلام : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)؟ ولماذا وقف جمع من الصحابة ضد علي مع معاوية وهو الخليفة المبايع؟ فإن قال هذه اجتهادات لم يبدّعوا بعضهم بعضاً من أجلها، قلنا هذا ما نريد منك الآن، فإما أن تحكم بالبدعة على الصحابة والتابعين وإما أن تقرّ بجواز الاجتهاد في فهم مقاصد الدين، وما لم يرد فيه نص ، وبجواز الاجتهاد في فهم مقاصد النصوص وأسرارها فيما فيه نص.
وما ذكرته الآن من حوار مفترض يجوز على المعتدلين منهم ، أما الغلاة فإنهم يرون الأذان الأول يوم الجمعة بدعة لم ترد ولا يعترفون بأن الخلفاء الراشدين هم الأربعة بل يقولون لا يوجد دليل ينص على أسمائهم ، ويرون المذاهب الأربعة مبتدعة ، كما قال أحدهم: « إن كل هذه المذاهب ضلالات والحق فيما قال الله وقال الرسول » .
ويذكر الجميع كيف ظهر منذ مدة من يقول بأن وسائل الدعوة توقيفية ، وأي وسيلة ليس عليها دليل فهي بدعة ، ثم لما علموا تورّطهم في هذه المقولة ، ورأوا استهزاء الناس بعقولهم خجلوا من أنفسهم.
ولقد كان أكثر الصحابة يتورّعون عن هذه الكلمة ، ولا يطلقونها بالمعنى الدارج بيننا إلا في مواضع مخصوصة ، والروايات التي تروى عنهم في هذا يجب أن تؤخذ بحذر من ناحية سندها أو من ناحية إقرار الصحابة الآخرين لها، لأن عدداً من الصحابة رأوا بدعة ما ليس ببدعة لعدم بلوغ الدليل إليهم فلما عرّفهم الصحابة بذلك رجعوا، أو من ناحية مخالفة النصوص فقد يقول الصحابي بقول يصل إلينا خلافه عن طريق صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا إذا صدر عن الصحابة ، فما بالك فيما يصدر عن الأئمة والعلماء الذين جاءوا من بعدهم رضي الله عنهم.
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (5) وجدي أبوراس
فعندما يحكم أحد الأئمة ببدعة قول أو فعل فليس من الضروري أن يكون كلامه حقاً وصواباً فهناك عدد من الأئمة والرؤى والأقوال تتعدد في الأمر الواحد ، أذكر أن بعض الأئمة والعلماء رحمهم الله في مواضع كثيرة من الفتاوى وغيرها يحكمون على أمر ببدعيته فيقولون لم يرد ذلك في السنة ولا ورد عن الصحابة وقد ورد في السنة وورد عن الصحابة في أكثر من دليل ومرة يقول أحدهم اتفق أهل العلم ولم يتفقوا، ومرة ينفي صحة شيء ويقرّه في مكان آخر ويقول به ، ويحكم بالتحريم في شيء يحكم بحلّه في موضع آخر، وغيره مما يحدث من العلماء ممن يفوتهم دليل أو تخفى عليهم سنة ، وهذا يدعونا إلى الحذر من الاندفاع في تبديع الخلق أو نفي الحق عنهم بأقوال لم تمرّ على التحقيق والتمحيص أو رجع عنها أصحابها.
وقد يذكّرنا ذلك بقصة الإمام البخاري حين قال : «لفظي بالقرآن مخلوق» فطرد وأوذي وقد كان الحق معه والناس يرونه على بدعة مغلّظة ،إن القدح في عقائد الناس وقذفهم بالبدعية أشد عند الله من رميهم بالزنا والفواحش كلها، لأن البدعة عند الله أغلظ من كبائر الذنوب.
سوف أذكر ضوابط لما ليس ببدعة لنخرج بتعريف عام لكل ما هو بدعة .
-1 ما ورد فيه نص صحيح أو ضعيف ..
ولا غرابة في أن تتعجب من هذا الضابط وتتساءل : وهل السنة إلا ما ورد فيه نص؟ وهذا صحيح ولكن حين نتأمل في المهووسين بتبديع الناس وننظر في أقوالهم نجد أنهم لا يخشون من إطلاق البدعة على من يملكون مرجعية ونصوصاً فيما ذهبوا إليه ، والأدلة على ذلك كثيرة وعندي مجموعة فتاوى من هنا وهناك تحكم ببدعة عدد من الأفعال بعضها في الصحيحين وبعضها في غير الصحيحين بأسانيد صحيحة وبعد أن تأملت في الأمر وجدت أن الدافع إلى ذلك في غالبه الهوى وإن تذرعوا بكل ذريعة ووجدتهم يكيلون السنة بموازين كثيرة ومن يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة يجب ألا يؤمن ببعض ويكفر ببعض ، من الأمثلة على ذلك ما هو في الصحيحين وغيرهما.
أما الحديث الضعيف فهو برغم ضعفه لا يجوز تبديع من عمل به لعدة أسباب:
أ -احتمال ثبوته بوجه من الوجوه.
ب-أن العمل بالضعيف مستحب عند بعض الأئمة احتياطاً في فضائل الأعمال حتى ولو اشتدّ ضعفه.
ج-إثبات الأئمة هذه الأحاديث بأسانيدهم فما من كتاب إلا فيه ضعيف عدا الصحيحين والموطأ على خلاف في الموطأ.
د -دخول الضعيف في مسائل الاجتهاد وليس في المحدثات.
2- ما جاز فيه وجه من وجوه الاجتهاد إما بالفهم لما نص عليه أو بالاستنباط ..
فكل دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو ما لم يرد فيه دليل جاز الاجتهاد فيه إلا ما ورد التحريم من الخوض فيه أو التعرض إليه ، ولك أن تعجب ممن يرى اجتهاده حقاً واجتهاد غيره جهلاً وضلالاً.
3- ما ثبت عن أحد الصحابة أو بعضهم فعله أو قوله ..
لأن الصحابة كلهم ثقات عدول لا يجوز إطلاق البدعة على أفعالهم لاقترابهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهم من الفهم ما لا تدركه مفاهيمنا ، وثبت عندهم ما لم يصلنا ، نعم قد يخالفه صحابة آخرون ولكن ما دام الصحابي متمسكاً برأيه ولم يرجع عنه فليس لأحد أن يعتبر فعله خارجاً عن السنة ما لم يرد فيه دليل على تخطئة صاحب هذا الفعل كحديث الفئة الباغية وحديث إسرائيل قد يكون فعل الصحابي مرجوحاً ولكن وسمه بالبدعة أو من يفعل فعله جريمة وشناعة ، اشتهر بها الرافضة والخوارج.
4- أن يكون العمل منتسباً إلى أصل من الكتاب أو السنة أو متفرعاً عنهما أو نابعاً منهما أو منطلقاً من مقاصدهما..
من هذا المنطق رأينا الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينطلقون دون حرج في ذلك وهو يقرّهم على ذلك كالصحابي الذي حمد الله بعد الرفع من الركوع بثناء جاء به من عنده منطلقاً من أصل الحمد في هذا الموضع من الصلاة فامتدح الرسول فعله وأخبره بأن الملائكة نزلت لترفعها ، وكما فعل بلال رضي الله عنه يوم كان يصلي لكل وضوء ركعتين فسمع الرسول خشخشة نعليه في الجنة وأمثلة لا تحصى في هذا الباب ، يكفينا فعل أبي بكر رضي الله عنه في جمع القرآن ، وفعل عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح .
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (6) وجدي أبوراس
5- ألا يكون العمل مضافاً إلى عبادة توقيفية خاصة ..
كالذي يزيد شوطاً في الطواف تعبداً أو يرمي الجمار أكثر من سبع تعبداً أو يترك السحور تعبداً أو يأتي في الصلاة بأفعال وأقوال زيادة على ما ورد وما هو توقيفي.
بعد هذا كله نستطيع أن نقول :
البدعة : هي كل عمل قلبي أو بدني أحدث على سبيل التعبد أو أضيف إلى عبادة توقيفية لا ينتسب إلى أصل من الكتاب والسنة الصحيحة أو الضعيفة أو عمل الصحابة ولم يكن له وجه جائز من وجوه الاجتهاد.
ويجب أن ننبه على كلمة عبادة لأن ما لا يدخل في العبادة لا يدخل في البدعة وهذه إشكالية عند المهووسين بالتبديع يضعون العادات في مصاف العبادات ثم يدخلونها في أبواب البدعة ، ويحكمون على الخلق بالبدعة والضلال.إن الصحوة الإسلامية في هذا العصر بحاجة ضرورية إلى تضييق معنى البدعة والاقتصار على الكتاب والسنة ومفهوم الصحابة - رضي الله عنهم - وليس التبديع بأقوال كل من هبّ ودبّ ، لأن كثيراً من معالم البدعة التي نسمع عنها ونجدها ما هي إلا قضايا اجتهادية جاءت من رؤى وآراء مختلفة تستحق المراجعة والتمحيص؛ لأن العلماء الذين جاءوا بها لم يجمعوا على كثير منها ، ولأن كلاً منهم ينطلق من قواعد تختلف عن الآخر، وكل عالم له تصور عن البدعة فهذا مضيق في منهج البدعة وذاك موسع وهذا متسرع متشدّد وذاك متأن معتدل وغيره بطيء متساهل .
من أجل ذلك فليس كل من حكم على اعتقاد أو عمل بالبدعة نجعله حجة على الخلق ، ولا يصح أن نجعل عالماً من العلماء أو إماماً من الأئمة ميزاناً لباقي الأمة كلها. ومن أخطاء الصحوة أن كل قطاع منها يتخذ إماماً من الأئمة ليقيس الأمة كلها عليه ومن خرج عنه فهو على خطر عظيم ، فالإمام الغزالي له أتباع ، والإمام ابن رشد له أتباع ، والإمام ابن حزم له أتباع ، والإمام الجيلاني له أتباع ، والإمام ابن تيمية له أتباع ، والإمام ابن حجر له أتباع ، وغير هؤلاء لهم أتباع رضي الله عنهم جميعا ً.
الحل الوحيد في رأي بعض العلماء هو أن يقاس كل هؤلاء على الكتاب والسنة فإن اختلفت أفهامنا للكتاب والسنة فلنرجع إلى السواد الأعظم وما أجمعت عليه الأمة في القرون الثلاثة فإن تعذّر الإجماع والسواد الأعظم ، فليس لإمام فضل على إمام ويدخل الجميع في باب الاجتهاد المغفور والمأجور.
وإن من الأدعياء أولئك الذين ينسبون أنفسهم إلى السلف الصالح فقاموا يدعون إلى السلفية في همجية جهلاء وعصبية عمياء وبعقول عقيمة وأفهام سقيمة وصدور ضيقة تحارب كل جديد وتنكر كل مخترع مفيد بدعوى أنه بدعة وأن كل بدعة ضلالة دون التفريق بين أنواع البدعة مع أن روح الشريعة الإسلامية توجب علينا أن نميز بين أنواع البدعة وأن نقول : إن منها البدعة الحسنة ومنها البدعة السيئة ، وهذا ما يقتضيه العقل النير والنظر الثاقب
وهذا ما حققه علماء الأصول من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم كالإمام العز ابن عبد السلام والنووي والسيوطي والمحلى وابن حجر .
والأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً ، ولابد من النظر إليها نظرة واحدة متكاملة ، ولابد من تفسيرها بروح الشريعة ومفهومها المتفق عليه بين أهل النظر .
ولذا نجد كثيراً من الأحاديث الشريفة تحتاج في تفسيرها إلى عقل عاقل وفكر ثاقب وفهم لائق وقلب ذائق يستمد من بحر الشريعة الغراء ويراعي أحوال الأمة وحاجتها ويسايرها في حدود القواعد الشرعية والنصوص القرآنية النبوية التي لا يجوز الخروج عنها .
ومن أمثلة ذلك هذا الحديث : كل بدعة ضلالة – فلابد من القول : أن المراد بذلك البدعة السيئة التي لا تدخل تحت أصل شرعي .
وهذا التقييد وارد في غير هذا الحديث مثلا كحديث : ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)) ..
فهذا الحديث مع أنه يفيد الحصر في نفي صلاة جار المسجد إلا أن عمومات الأحاديث تفيد تقييده بأن لا صلاة كاملة
وكحديث : ((لا صلاة بحضرة الطعام)) .. قالوا : أي صلاة كاملة .
وكحديث : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) .. قالوا : أي إيماناً كاملاً .
وكحديث : ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من لم يأمن جاره بوائقه))
وكحديث : ((لا يدخل الجنة قتات)) .. ((ولا يدخل الجنة قاطع رحم)) .. ((وعاق لوالديه)) ..
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (7) وجدي أبوراس
فالعلماء قالوا : إنه لا يدخل دخولاً أولياً أو لا يدخل إذا كان مستحلاً لذلك الفعل .
الحاصل أنهم لم يجروه على ظاهره وإنما أولوه بأنواع التأويل .
وحديث البدعة هذا من هذا الباب فعمومات الأحاديث وأحوال الصحابة تفيد أن المقصود به البدعة السيئة التي لا تندرج تحت أصل كلي .
وفي الحديث : ((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) .
وفي الحديث : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) ..
ويقول سيدنا عمر رضى الله عنه في صلاة التراويح : نعمت البدعة هذه .
تفريق ضروري بين البدعة الشرعية واللغوية ..
ينتقد بعضهم تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة ، وينكر على من يقول ذلك أشد الإنكار ، بل ومنهم من يرميه بالفسق والضلال ، وذلك لمخالفة صريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) . وهذا اللفظ صريح في العموم وصريح في وصف البدعة بالضلالة .
ولذا لابد أن نوضح هنا مسألة مهمة وبها ينجلي كثير من الإشكال ، ويزول اللبس إن شاء الله .
إذا علمت أن البدعة في الأصل هي : كل ما أحدث واخترع على غير مثال فلا يغيب عن ذهنك أن الزيادة أو الاختراع المذموم هنا هو الزيادة في أمر الدين ليصير من أمر الدين ، وهذا هو الذي حذر منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، فالحد الفاصل في الموضوع هو قوله : ( في أمرنا هذا ) . ولذلك فإن تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة في مفهومنا ليس إلا للبدعة اللغويةالتي هي مجرد الاختراع والإحداث ، ولا نشك جميعاً في أن البدعة بالمعنى الشرعي ليست إلا ضلالة وفتنة مذمومة مردودة مبغوضة ، ولو فهم أولئك المنكرون هذا المعنى لظهر لهم أن محل الاجتماع قريب وموطن النزاع بعيد .
وزيادة في التقريب بين الأفهام أرى أن منكري التقسيم إنما ينكرون تقسيم البدعة الشرعية بدليل تقسيمهم البدعة إلى دينية ودنيوية ، واعتبارهم ذلك ضرورة . وأن القائلين بالتقسيم إلى حسنة وسيئة يرون أن هذا إنما هو بالنسبة للبدعة اللغوية لأنهم يقولون : إن الزيادة في الدين والشريعة ضلالة وسيئة كبيرة ، ولا شك في ذلـك عندهـم فالخلاف شكلي ، غير أني أرى أن إخواننا المنكريـن لتقسـيــم البدعـة إلـى حسنـة وسيئـة ، والقائليـن بتقسيمهـا إلـى دينية ودنيوية لم يحالفهم الحظ في دقة التعبير ، وذلك لأنهم لما حكموا بأن البدعة الدينية ضلالة – وهذا حق – وحكموا بأن البدعة الدنيوية لا شيء فيها قد أساءوا الحكم لأنهم بهذا قد حكموا على كل بدعة دنيوية بالإباحة ، وفي هذا خطر عظيم ، وتقع به فتنة ومصيبة ، ولا بد حينئذ من تفصيل واجب وضروري للقضية ، وهو أن يقولوا : إن هذه البدعة الدنيوية منها ما هو خير ومنها ما هو شر كما هو الواقع المشاهد الذي لا ينكره إلا أعمى جاهل ، وهذه الزيادة لابد منها ، ويكفي في تحقيق هذا المعنى بدقة قول من قال : بأن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة ، ومعلوم أن المراد بها اللغوية كما تقدم ، وهي التي عبر عنها المنكرون بالدنيوية ، وهذا القول في غاية الدقة والاحتياط ، وهو ينادي على كل جديد بالانضباط والانصياع لحكم الشرع وقواعد الدين ، ويلزم المسلمين أن يعرضوا كل ما جد لهم وأحدث من أمورهم الدنيوية العامة والخاصة على الشريعة الإسلامية ليرى حكم الإسلام فيها مهما كانت تلك البدعة ، وهذه لا يتحقق إلا بالتقسيم الرائع المعتبر عن أئمة الأصول ، فرضي الله عن أئمة الأصول وعن تحريرهم للألفاظ الصحيحة المجزئة المؤدية إلى المعاني السليمة دون نقص أو تحريف أو تأويل .
خامساً : مفهوم التوسل ..
يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقة التوسل ، ولذا فإننا سنبين مفهوم التوسل الصحيح في نظرنا وقبل ذلك لابد أن نبين هذه الحقائق :
أولاً : أن التوسل هو أحد طرق الدعاء وباب من أبواب التوجه إلى الله سبحانه وتعالى ، فالمقصود الأصلي الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى ، والمتوسَّل به إنما هو واسطة ووسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ومن اعتقد غير ذلك فقد أشرك .
ثانيـاً : أن المتوسل ما توسل بهذه الواسطة إلا لمحبته لها واعتقاده أن الله سبحانه وتعالى يحبها ، ولو ظهر خلاف ذلك لكان أبعد الناس عنها وأشد الناس كراهة لها .
ثـالثاً : أن المتوسل لو اعتقد أن من توسل به إلى الله ينفع ويضر بنفسه مثل الله أو دونه فقد أشرك .
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (8) وجدي أبوراس
رابعاً : أن التوسل ليس أمراً لازماً أو ضرورياً وليست الإجابة متوقفة عليه بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقاً ، كما قال تعالى : (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) . وكما قال تعالى : (( قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى )) .
المتفق عليه من التوسل ..
لم يختلف أحد من المسلمين في مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحــة ، فمـن صـام أو صلى أو قرأ القرآن أو تصدق فإنـه يتوسـل بصيامه وصلاته وقراءته وصدقته بل هو أرجى في القبول وأعظم في نيل المطلوب لا يختلف في ذلك اثنان ، والدليل على هذا حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فتوسل أحدهم إلى الله ببره لوالديه ، وتوسل الثاني بابتعاده عن الفاحشة بعد تمكنه من أسبابها ، وتوسل الثالث بأمانته وحفظه لمال غيره وأدائه له كاملاً ، وفرج الله عنهم ما هم فيه ، وهذا النوع من التوسل قد فصله وبين أدلته وحقق مسائله الشيخ ابن تيمية رحمه الله في كتبه وخصوصاً في رسالته ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) .
محل الخلاف :
ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل ، كالتوسل بالذوات والأشخاص بأن يقول : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق أو بعمر بن الخطاب أو بعثمان أو بعلي رضي الله عنهم ، فهذا هو الممنوع عند بعضهم .
ونحن نرى أن الخلاف شكلي وليس بجوهري ، لأن التوسل بالذات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله وهو المتفق على جوازه ، ولو نظر المانع المتعنت في المسألة بعين البصيرة لانجلى له الأمر وانحل الإشكال وزالت الفتنة التي وقع بسببها من وقع فحكم على المسلمين بالشرك والضلال .
وسأبين كيف أن المتوسل بغيره هو في الحقيقة متوسل بعمله المنسوب إليه والذي هو من كسبه .
فأقول : إعلم أن من توسل بشخص ما فهو لأنه يحبه إذ يعتقـد صلاحه وولايتـه وفضلـه تحسينـاً للظـن بـه ، أو لأنـه يعتقد أن هذا الشخص محب لله سبحانه وتعالى يجاهد في سبيله ، أو لأنه يعتقد أن الله تعالى يحبه كما قال تعالى : (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )) ، أو لاعتقاد هذه الأمور كلها في الشخص المتوسل به .
وإذا تدبرت الأمر وجدت أن هذه المحبة وذلك الاعتقاد من عمل المتوسل لأنه اعتقاده الذي انعقد عليه قلبه فهو منسوب إليه ومسئول عنـه ومثاب عليـه ؛
وكأنه يقول : يا رب إني أحب فلاناً وأعتقد أنه يحبك وهو مخلص لك ويجاهد في سبيلك ، وأعتقد أنك تحبه وأنت راض عنه فأتوسل إليك بمحبتي له وباعتقادي فيه أن تفعل كذا وكذا ، ولكن أكثر المتوسلين يتسامحون في التصريح بهذا الأمر مكتفين بعلم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
فمن قال : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك . هو ومن قال : اللهم إني أتوسل إليك بمحبتي لنبيك – سواء ، لأن الأول ما أقدم على هذا إلا لمحبته وإيمانه بنبيه ، ولولا المحبة له والإيمان به ما توسل به ، وهكذا يقال في حق غيره من أولياء الأمة .
وبهذا ظهر أن الخلاف في الحقيقة شكلي ولا يقتضي هذا التفرق والعداء بالحكم بالكفر على المتوسلين وإخراجهم عن دائرة الإسلام (( سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)) .
أدلة ما عليه المسلمون من التوسل ..
قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ )) .
معنى توسل عمر بالعباس ..
أخرج البخاري في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه – كانوا إذا قحطوا – استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال : [ اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ] .
وأخرج الزبير بن بكار في الأنساب من طريق غيره هذه القصة بأبسط من هذا .
وتلخيصها : عن عبد الله بن عمر قال : استسقى عمر بن الخطاب عام الرمادة [بفتح الراء وتخفيف الميم] سميت بذلك لكثرة تطاير الرماد لاحتباس المطر بالعباس ابن عبد المطلب ، فخطب الناس فقال : ياأيها الناس إن رسول الله
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (9) وجدي أبوراس
صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد للوالد – فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس ، واتخذوه وسيلة إلى الله : أدع يا عباس فكان من دعائه رضي الله عنه : اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة – وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث واحفظ اللهم نبيك في عمه ، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس وأقبل الناس على العباس يتمسحون به ، ويقولون له : هنيئاً لك يا ساقي الحرمين ، وقال عمر – رضي الله عنه – ذلك : هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه – وفي ذلك أنشد عباس بن عتبة ابن أخيه أبياتاً منها :
بعمي سقى الله الحجاز وأهله :: عشية يستسقى بشيبته عمر
وقال ابن عبد البر : وفي بعض الروايات فارخت السماء عزاليها فجاءت بأمثال الجبال حتى استوت الحفر بالآكام وأخصبت الأرض وعاش الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : هذا والله الوسيلة إلى الله عز وجل ، والمكان منه .
الخلاصة : ..
والخلاصة أنه مما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم له عند الله قدر علِيّ ومرتبة رفيعة ، وجاه عظيم ، فأي مانع شرعي أو عقلي يمنع التوسل به فضلاً عن الأدلة التي تثبته في الدنيا والآخرة – ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه فنحن ندعوه بما أحب أياً كان ، تارة نسأله بأعمالنا الصالحة لأنه يحبها وتارة نسأله بمن يحبه من خلقه ، وتارة نسأله بأسمائه الحسنى كما في قوله - صلى الله عليه وسلم ( أسألك بأنك أنت الله ) أو بصفته أو فعله كما في قوله في الحديث الآخر : ( أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك ) ، وليس مقصوراً على تلك الدائرة الضيقة التي يظنها المتعنتون .
وسر ذلك أن كل ما أحبه الله صح التوسل به ، وكذا كل من أحبه من نبي أو وليّ ، وهو واضح لدى كل ذي فطرة سليمة ولا يمنع منه عقل ولا نقل بل تضافر العقل والنقل على جوازه والمسؤول في ذلك كله الله وحده لا شريك له لا النبي ولا الولي ولا الحي ولا الميت ، (( قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً )) .
وإذا جاز السؤال بالأعمال فبالنبي صلى الله عليه وسلم أولى لأنه أفضل المخلوقات والأعمال منها والله أعظم حبَّاً له صلى الله عليه وسلم من الأعمال وغيرها – وليت شعري ما المانع من ذلك ، واللفظ لا يفيد شيئاً أكثر من أن للنبي قدراً عند الله ، والمتوسل لا يريد غير هذا المعنى ، ومن ينكر قدره عند الله فهو كافر والعياذ بالله .
وبعد : فمسألة التوسل تدل على عظمة المسؤول به ومحبته ، فالسؤال بالنبي إنما هو لعظمته عند الله أو لمحبته إياه وذلك مما لاشك فيه على أن التوسل بالأعمال متفق عليه ، فلماذا لا نقول : إن من يتوسل بالأنبياء أو الصالحين هو متوسل بأعمالهم التي يحبها الله ، وقد ورد حديث أصحاب الغار فيكون من محل الاتفاق ؟ .
ولا شك أن المتوسل بالصالحين إنما يتوسل بهم من حيث أنهم صالحون فيرجع الأمر إلى الأعمال الصالحة المتفق على جواز التوسل بها ، كما قلنا آنفاً .
إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ..
[هذا طرف من الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وصححه عن ابن عباس مرفوعاً] .
وهذا الحديث يخطئ كثير من الناس في فهمه ، إذ يستدل به على أنه لا سؤال ولا استعانة مطلقاً من كل وجه وبأي طريق إلا بالله ويجعل السؤال والاستعانة بغير الله من الشرك المخرج من الملة ، وهو بهذا ينفي الأخذ بالأسباب والاستعانة بها ويهدم كثيراً من النصوص الواردة في هذا الباب .
والحق أن هذا الحديث الشريف ليس المقصود به النهي عن السؤال والاستعانة بما سوى الله كما يفيده ظاهر لفظه وإنما المقصود به النهي عن الغفلة عن أن ما كان من الخير على يد الأسباب فهو من الله ، والأمر بالانتباه إلى أن ما كان من نعمة على يد المخلوقات فهو من الله وبالله ، فالمعنى : وإذا أردت الاستعانة بأحد من المخلوقين ، ولابد لك منها فاجعل كل اعتمادك على الله وحده ولا تحجبنك الأسباب عن رؤية المسبب جل جلاله ، ولا تكن ممن يعلمون ظاهراً من هذه الارتباطات والعلاقات بين الأشياء المترتب بعضها على بعض ، وهم عن الذي ربط بينها غافلون .
وقد أومأ هذا الحديث نفسه إلى هذا المعنى ، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام عقب هذه الجملة الشريفة :
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (10) وجدي أبوراس
( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ) ، فأثبت لهم كما نرى نفعاً وضراً بما كتبه الله للعبد أو عليه .
فهذا منه يوضح مراده .
وكيف ننكر الاستعانة بغيره ، وقد جاء الأمر بها في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة ، قال تعالى :
(( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ )) ، وقال : (( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ )) .
وحكي عن العبد الصالح ذي القرنين قوله : (( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ )) ، وفي مشروعية صلاة الخوف الثابتة بالكتاب والسنة مشروعية استعانة بعض الخلق ببعض ، وكذا في أمره تعالى المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من عدوهم .
وكذا في ترغيبه عليه الصلاة والسلام للمؤمنين في قضاء حوائج بعضهم بعضاً ، والتيسير على المعسر والتفريج عن المكروب ، وفي ترهيبه من إهمال ذلك ، وهو في السنة كثير ، روى الشيخان : ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) .
وروى مسلم وأبو داود وغيرهما عنه عليه الصلاة والسلام : ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن لله خلقاً خلقهم لحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم ، أولئك الآمنون من عذاب الله ) ؛ فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم : ( يفزع إليهم في حوائجهم ) ، ولم يجعلهم مشركين بل ولا عاصين ..
وروي أيضاً مرفوعاً : ( إن لله عند أقوام نعما أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ما لم يملوهم ، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم ) ..
وروى هو وابن أبي الدنيا عنه صلى الله عليه وسلم : ( إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم ) ..
قال الحافظ المنذري : ولو قيل بتحسين سنده لكان ممكناً . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته – وأشار باصبعه – أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين ) ..
رواه الحاكم وقال : صحيح الإسناد .
سادساً : مفهوم التعظيم ..
وقد أخطأ كثير من الناس في فهم بعض الأمور المشتركة بين المقامين ( مقام الخالق ومقام المخلوق ) فظن أن نسبتها إلى مقام المخلوق شرك بالله تعالى .
ومن ذلك بعض الخصائص النبوية مثلاً ، التي يخطئ بعضهم في فهمها فيقيسونها بمقياس البشرية ، ولذلك يستكثرونها ويستعظمونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويرون أن وصفه بها معناه وصفه ببعض صفات الألوهية ، وهذا جهل محض لأنه سبحانه وتعالى يعطي من يشاء وكما يشاء بلا موجب ملزم وإنما هو تفضل على من أراد إكرامه ورفع مقامه وإظهار فضله على غيره من البشر وليس في ذلك انتزاع لحقوق الربوبية وصفات الألوهية ، فهي محفوظة بما يناسب مقام الحق سبحانه وتعالى : وإذا اتصف المخلوق بشيء منها فيكون بما يناسب البشرية من كونها محدودة مكتسبة بإذن الله وفضله وإرادته لا بقوة المخلوق ولا تدبيره ولا أمره إذ هو عاجز ضعيف لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، وكم من أمور جاء ما يدل على أنها حق لله سبحانه وتعالى ، ولكنه سبحانه وتعالى منَّ بها على نبيه صلى الله عليه وسلم وغيره .
وحينئذ فلا يرفعه وصفه بها إلى مقام الألوهية أو يجعله شريكاً لله سبحانه وتعالى.
- فمنها : الشفاعة ، فهي لله ، قال الله تعالى : (( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ )) ، وهي ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم ولغيره من الشفعاء بإذن الله كما جاء في الحديث : ( أوتيت الشفاعة ) ..
وحديث : ( أنا أول شافع ومشفع ) ..
- ومنها : علم الغيب ، فهو لله سبحانه وتعالى : (( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )) ، وقد ثبت أن الله تعالى علّم نبيه من الغيب ما علّمه وأعطاه ما أعطاه (( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ )) .
- ومنها : الهداية فهي خاصة بالله تعالى ، قال الله تعالى : (( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ )) وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم له شيء من ذلك فقال : (( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )) ، والهداية الأولى غير الهداية الثانية ، وهذا إنما يفهمه العقلاء من المؤمنين الذين يعلمون الفرق بين الخالق والمخلوق ، ولولا ذلك لاحتاج أن يقول : وإنك لتهدي هداية إرشاد ، أو أن يقول وإنك لتهدي هداية غير هدايتنا ، ولكن كل ذلك لم يحصل ،
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (11) وجدي أبوراس
بل أثبت له هداية مطلقة بلا قيد ولا شرط ، لأن الموحد منا معشر المخاطبين من أهل الإسلام يفهم معاني الألفاظ ويدرك اختلاف مدلولاتها بالنسبة لما أضيف إلى الله ، وبالنسبة لما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونظير هذا ما جاء في القرآن من وصف رسول الله بالرأفة والرحمة إذ يقول : (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) ، ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بذلك أيضاً في أكثر من موضع ، فهو سبحانه وتعالى (( رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) ، ومعلوم أن الرأفة والرحمة الثانية غير الأولى ، ولما وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك الوصف وصفه به بالإطلاق بلا قيد ولا شرط ، لأن المخاطب وهو موحد مؤمن بالله يعلم الفرق بين الخالق والمخلوق ، ولولا ذلك لاحتاج أن يقول في وصفه صلى الله عليه وسلم : رؤوف برأفة غير رأفتنا ، ورحيم برحمة غير رحمتنا أو أن يقول : رؤوف برأفة خاصة أو رحيم برحمة خاصة ، أو أن يقول : رؤوف برأفة بشرية ورحيم برحمة بشرية ، ولكن كل ذلك لم يحصل ، بل أثبت له رأفة مطلقة ورحمة مطلقة بلا قيد ولا شرط ، فقال : (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) .
التعظيم بين العبادة والأدب ..
يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقة التعظيم وحقيقة العبادة ، فيخلطون بينهما خلطاً بيناً ويعتبرون أن أي نوع من أنواع التعظيم هو عبادة للمعظم فالقيام وتقبيل اليد وتعظيم النبي بسيدنا ومولانا ، والوقوف أمامه في الزيارة بأدب ووقار وخضوع ، كل ذلك غلو عندهم يؤدي إلى العبادة لغير الله تعالى ، وهذا في الحقيقة جهل وتعنت لا يرضاه الله ولا رسوله وتكلف تأباه روح الشريعة الإسلامية .
فهذا آدم أول الجنس الإنساني ، وأول عباد الله الصالحين من هذا الجنس أمر الله تعالى الملائكة بالسجود له إكراماً وتعظيماً لما آتاه من علمه وإعلاماً لهم باصطفائه من بين سائر مخلوقاته ، قال تعالى : (( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ )) إلى آخر الآية .
وفي آية أخرى قال : (( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ )) .. وفي آية أخرى : (( فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ )) .. فالملائكة عليهم السلام عظموا من عظمه الله ، وإبليس تكبر أن يسجد لمن خلق من طين ، فهو أول من قاس الدين برأيه وقال : أنا خير منه ، وعلل ذلك بعلة خلقه من نار وخلق آدم من طين وأنف من تكرمته عليه واستنكف من السجود له ، فهو أول المتكبرين ولم يعظم من عظمه الله ، فكان عاقبة تكبره أن طرد من رحمة الله لتكبره على هذا العبد الصالح وهو عين التكبر على الله لأن السجود إنما هو لله إذ هو بأمره ، وإنما جعل السجود له تشريفاً وتكريماً له عليهم وكان من الموحدين فلم ينفعه توحيده .
ومما جاء في تعظيم الصالحين قال الله تعالى في حق يوسف عليه السلام : (( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً )) تحية وتكريماً وتشريفاً وتعظيماً له عليهم ، والسجود من إخوته له إلى الأرض يدل عليه قوله تعالى :
(( وخروا )) . ولعله كان جائزاً في شرعهم ، أو كسجود الملائكة لآدم عليه السلام تشريفاً وتعظيماً وامتثالاً لأمر الله تأويلاً لرؤيا يوسف إذ رؤيا الأنبياء وحي .
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى في حقه : (( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ )) ، وقال: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ )) ، وقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ )) الآيات الثلاث . وقال تعالى : (( لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً )) ، ونهى عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام ، قال سهل بن عبد الله : لا تقولوا قبل أن يقول ، أي لا تتكلموا قبله ، وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا ، ونهوا عن التقدم والتعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، وأن يفتوا بشيء في ذلك من قتال أو غيره من أمر دينهم إلا بأمره ، ولا يسبقوه به ، ثم وعظهم وحذرهم من مخالفة ذلك فقال : (( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) ،
وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله ( كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس ، فيهم أبو بكر وعمر ، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ، ويبتسمان إليه ويبتسم لهما ) .
وروى أسامة بن شريك قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير ، وفي صفته إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير ، وقال عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه وكانوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً ، ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ،
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (12) وجدي أبوراس
ولا تسقط منه شعره إلا ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، فلما رجع إلى قريش قال : يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، وفي رواية : إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمداً أصحابه ، وقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً.
والحاصل أن هنا أمرين عظيمين لابد من ملاحظتهما ، أحدهما : وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق ، والثاني إفراد الربوبية واعتقاد أن الله تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه فمن اعتقد في مخلوق مشاركة الباري سبحانه وتعالى في شيء من ذلك فقد أشرك – كالمشركين الذين كانوا يعتقدون الألوهية للأصنام واستحقاقها العبادة ، ومن قصر بالرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء من مرتبته فقد عصى أو كفر .
وأما من بالغ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بأنواع التعظيم ، ولم يصفه بشيء من صفات الباري عز وجل فقد أصاب الحق وحافظ على جناب الربوبية والرسالة جميعاً ، وذلك هو القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط .
وإذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي ، ولا سبيل إلى تكفيرهم ، إذ المجاز العقلي مستعمل في الكتاب والسنة .
وأخيراً : عقيدتنا هى إياك نعبد وإياك نستعين ..
إننا نعتقد اعتقاداً جازماً لازماً لا شك فيه ولا ريب أن الأصل في الاستعانة والاستغاثة والطلب والنداء ،
والسؤال هو أن يكون لله سبحانه وتعالى فهو المعين والمغيث والمجيب .
قال الله تعالى : (( لاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ)) وقال : (( فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ )) .
وقال تعالى : (( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ )) .
وقال تعالى : (( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )) .
فالعبادة بجميع أنواعها لابد أن تصرف لله وحده ولا يجوز صرف شيء منها لغير الله كائناً من كان ؛
(( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) .
فلا نذر إلا لله ولا دعاء إلا له ولا ذبح إلا له ولا استغاثة ولا استعاذة ولا استعانة ولا حلف إلا بالله ولا توكل إلا عليه سبحانه وتعالى عما يشرك به المشركون علواً كبيراً .
ونحن نعتقد أن الله هو الخالق للعباد وأفعالهم لا تأثير لأحد سواه لا لحي ولا ميت ، وليس لأحد مع الله فعل أو ترك أو رزق أو إحياء أو إماتة ، وليس حد من الخلق قادراً على الفعل أو الترك بنفسه استقلالاً دون الله أو بالمشاركة مع الله أو أدنى من ذلك .
فالمتصرف في الكون هو الله سبحانه وتعالى ولا يملك أحد شيئاً إلا إذا ملكه الله ذلك وأذن له في التصرف فيه ، ولا يملك أحد لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا نشوراً إلا ما شاء الله بإذن الله فالنفع والضر حينئذ محدود بهذا الحد ومقيد بهذا القيـد ونسبتـه إلى الخلق على سبيـل التسبب والتكسب لا على سبيل الخلق أو الإيجاد أو التأثير أو العلـة أو القوة والنسبـة في الحقيقـة مجازيـة ليست حقيقية ، ولكن الناس يختلفون في التعبير عن هذه الحقائق، فمنهم من يسرف في استعمال المجاز إسرافاً شديداً حتى يقع في شبه لفظية هو منها برئ وقلبه سليم منعقد على كمال التوحيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى .
ومنهم من يتمسك بالحقيقة تمسكاً زائداً عن حد الاعتدال فيصل به إلى التعنت والتشدد والإساءة إلى الناس بمعاملتهم على خلاف معتقدهم وحملهم على ما لا يقصدون وإلزامهم بما لا يريدون والحكم عليهم بما هم عنه بريئون والواجب الاعتدال والبعد عن كل ذلك فهو أسلم للدين وأحوط في حماية مقام التوحيد . والله أعلم .
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (13) وجدي أبوراس
دعوى باطلـة ..
أما دعوى أن الميت لا يقدر على شيء فهي باطلـة لأنـه إن كان ذلك لكونهم يعتقدون أن الميت صار ترابـاً فهذا عين الجهل بما ورد عن نبينـا صلى الله عليه وسلم بل عن ربنا جل جلاله من ثبوت حياة الأرواح وبقائها بعد مفارقة الأجسام ومناداة سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم - لها يوم بدر :( يا عمرو بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا فلان ابن فلان إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً فقيل له : ما ذلك ؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) . ومن ذلك تسليمه على أهل القبور ومناداته لهم بقوله : ( السلام عليكم يا أهل الديار ) .
ومن ذلك عذاب القبر ونعيمه ، وإثبات المجئ والذهاب إلى الأرواح إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي جاء بها الإسلام وأثبتتها الفلسفة قديماً وحديثاً .
ولنقتصر هنا على هذا السؤال :
أيعتقدون أن الشهداء أحياء عند ربهم كما نطق القرآن بذلك أم لا ؟ فإن لم يعتقدوا فلا كلام لنا معهم لأنهم كذبوا القرآن حيث يقول : (( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ )) ، وإن اعتقـدوا ذلـك فنقـول لهـم : إن الأنبيـاء وكثيراً من صالحي المسلميـن الذيـن ليسـوا بشهـداء كأكابـر الصحابـة أفضـل من الشهداء بلا شـك ، فإذا ثبتـت الحيـاة للشهـداء فثبوتها لمن هـو أفضـل منهم أولى على أن حياة الأنبياء مصرح بها في الأحاديث الصحيحة .
فإن كانوا لا يعرفون إلا المحسوسات ولا يعترفون إلا بالمشاهدات فهذا هو شأن الطبيعيين لا المؤمنين على أننا نتنزل معهم ونسلم لهم أن الأرواح بعد مفارقة الأجساد لا تستطيع أن تعمل شيئاً ولكن نقول لهم : إذا فرضنا ذلك وسلمنا جدلاً فلنا أن نقرر أنه ليست مساعدة الأنبياء والأولياء للمستغيثين بهم من باب تصرف الأرواح في هذا العالم ، بل مساعدتهم لمن يزورهم أو يستغيث بهم بالدعاء لهم كما يدعو الرجل الصالح لغيره ، فيكون من دعاء الفاضل للمفضول ، أو على الأقل من دعاء الأخ لأخيه ، وقد علمت أنهم أحياء يشعرون ويحسون ويعلمون ، بل الشعور أتم والعلم أعم بعد مفارقة الجسد لزوال الحجب الترابية وعدم منازعات الشهوات البشرية .
وقد جاء في الحديث : أن أعمالنا تعرض عليه صلى الله عليه وسلم فإن وجد خيراً حمد الله وإن وجد غير ذلك استغفر لنا ، ولنا أن نقول : إن المستغاث به والمطلوب منه الإغاثـة هو الله تعالى ، ولكـن السائـل يسـأل متوسـلاً إلى الله بالنبي صلى الله عليه وسلم في أنـه يقضي حاجتـه ، فالفاعـل هـو الله ، ولكـن أراد السائـل أن يسأله تعالى ببعض المقربين لديه الأكرمين عليه ، فكأنه يقول : أنا من محبيه ( أو محسوبيه ) فارحمني لأجله وسيرحم الله كثيراً من الناس لأجل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والأولياء والعلماء .
وبالجملة فإكرام الله لبعض أحباب النبي صلى الله عليه وسلم لأجل نبيه بل بعض العباد لبعض ، أمر معروف غير مجهول ، ومن ذلك الذين يصلون على الميت ويطلبون من الله أن يكرمه ويعفو عنه لأجلهم بقولهم : وقد جئناك شفعاء فشفعنا .
أسأل الله العلى القدير يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، ويعلمنا ما ينفعنا ، وينفعنا بما يعلمنا ، وأن يدخلنا جميعاً برحمته في عباده الصالحين ، وصل اللهم وسلم على البشير النذير وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الكاتب : وجدي عبد اللطيف أبوراس
في : 28 ــ 03 ــ 2008 مسيحي
مفاهيم في العقيدة يجب أن تصحح .. (14) وجدي أبوراس
السبت، 20 مارس 2010
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق